الدجالُ .. في القرآنِ الكريمِ ، تكملة 4
أحكامٌ مستخلصةٌ
كنتُ قد وعدتُ بمقالٍ فاصلٍ هو بين ما قدمتُ مِنْ حقيقةِ الدجالِ في القرآنِ الكريمِ ، وبين ما سنقدمُ بإذنِ اللهِ ومشيئتِهِ مِنْ تلكمُ الحقيقةِ ، وقد كنتُ قلتُ " مهمٌ هو جدًا وللغايةِ وهو بالفعلِ كذلك ، إلَّا أنني وجدتُ إرجائِهِ لضرورةِ بيانِ الأحكامَ المستخلصةِ على ضوءِ ما سبقَ في بيانِ شخصيةَ الدجالِ وحقيقتِهِ في القرآنِ الكريمِ .
ويُمْكِنُ استخلاصُ تلكَ الأحكامِ وبيانِها في العناصرِ التاليةِ ، ومِنْ أهمِها :
ويُمْكِنُ استخلاصُ تلكَ الأحكامِ وبيانِها في العناصرِ التاليةِ ، ومِنْ أهمِها :
أولًا ـ
أنَّ الدجالَ إنْ هو إلَّا شيطانٌ إنْسِيٌّ ، يوازى شيطانَ الجنِ ( إبليسَ ) ويشابههُ في كلِ المهامِ الشيطانيةِ ، وفي النَظْرِ ، وفي الركنِ المعنوي لفعلِ الذنبِ أو المعصيةِ قبيل الشيطنةِ وهو الحقدَ والحسدَ والكبرَ ( على فرضِ أنه قابيل ) ، ومِنْ ثَمَّ في الغايةِ التي يسعيانِ إليها بعد الشيطنةِ و إنْ اختلفتْ وسيلةُ كلًا منهما في العملِ ، كما سنبينُ لاحقا إن شاء اللهُ تعالى .. ولا يختلفانِ إلَّا في مادةِ الخَلْقِ ، وفي الركنِ المادي في فعلِ المعصيةِ أو الذنبِ قبيلَ الشيطنةِ والنظرِ على الفرضِ نفسُهُ بأنه هو قابيلُ ، والذي انتهى بنا البحثُ بشأنِهِ إلى كونِهِ واقعاً ممكناً ، وإنْ لم يصح معنا ذلك الفرضُ بكونِهِ قابيل فلا ينتفي الحكمُ بكونِ الدجالَ شيطانٌ إنسيٌ وفقَ آيةِ فُصِّلَتْ ، إلَّا أنْ تظلَ ظروفَ شيطنتِهِ ونظرِهِ مجهولةٌ لدينا ، و مِنْ ثَمَّ فيمكنُ قراءةِ رسائلَ ربِنا عز وجل في قرآنِهِ الكريمِ بشكلٍ مختلفٍ عما سبق ، بأن نصرفُ أفهامَنا في إطلاقِ لفظ ( شيطان ) في معرضِ التحذيرِ منه ، إلى كلٍ من شيطانِ الإنسِ والجنِ ( الدجال و إبليس ) ، غيرَ أنَّ هناكَ آياتٌ تخصُ إبليسَ وحدهُ .. و بأن نصرفُ معنى التعوذِ في قولِنا " أعوذُ باللهِ مِنَ الشيطانِ الرجيمِ " إليهما معاً . ويدعمُ ذلك عندي دعامتينِ أساسيتينِ :
1 ـ أن اللهَ سبحانه ـ في سورةِ الناس ـ جعلهما واحداً عند التعوذِ منهما فقالَ ( من شرِ الوسواسِ الخناسِ " الذي " يوسوسُ في صدورِ الناسِ ) ، لكنه تعالى قد أفرزهما عند بيانِ طبيعةَ شخصيتهما فقالَ ( منَ الجِنةِ والناسِ ) أي جعلهما اثنين مِنْ جنسينِ مختلفين .. ولا يمنع ذلك أن نتعوذ من فتنةِ الدجالِ بصيغتها الواردةُ في السنةِ النبويةِ الشريفة عقبَ التشهدِ في الصلواتِ .
2 ـ فكرةَ أن الشيطانَ تعرَّضَ لنبي اللهِ وخليلهِ إبراهيمَ ، وكذلك لابنِهِ إسماعيلَ ، ولزوجتِهِ هاجَرَ ، في واقعةِ " ذبحِ إسماعيلَ " ليُفْشِلُها ، ويُثْنِي إبراهيمَ خليلَ اللهِ عن طاعةِ ربِهِ .. إنما نؤيدها فيما عدا كونُ الشيطانِ هو إبليسُ وحدهُ ، و أنه كان يظهرُ عياناً في ذلك العهدِ فإنا نرفضُهُ لغرابتِهِ ، ولكنا نراهُ ـ مع إبليس ـ شيطانَ الإنسِ ( الدجالَ ) فأخذ صفةَ الرجمِ كما أخذها مِنْ قبلُ نظيرُه إبليسُ ، عندما رجمه كلٌ مِنْ إبراهيمَ وهاجرَ وإسماعيل .
ثانياً ـ
أنَّ الدجالَ لمْ يكنْ بحالٍ ، علامةً مِنْ علاماتِ الساعةِ كما هو شائعٌ في الأمةِ.. ومِنْ ثَمَّ ليس هو المعنِّىُ مِنْ آيةِ الأنعامِ (158) كما قال بعضُ المفسرين .. ويدعمُ ذلكَ الحُكمَ فيما قدمتُ ، قولُنا في مُضِلِّ الإنسِ أنه هو الدجالُ ، وأنه مطلبُ عمومَ الكافرينَ بحيثُ لا يخرجَ كافرٌ مِنْ نطاقِ عملِه أو فتنتِهِ ، بما في ذلك ( كُفَّارَ أمتِنا ) وأعنى بهم الأجيالَ المتعاقبةَ من الكفارِ الموازيةِ ـ في الوجودِ ـ لأجيالِ أمتِنا المتعاقبةُ مِن لدن مهدها وحتى نهايتها ، مما يقضى بالضرورةِ أيضاً عملُهُ في أمتِنا بتوازي عملُهُ في الأممِ الكافرةِ .. ذلك أنه دائما ما يستخدمُ الكُفارَ لفتنةِ المؤمنين ، وطالما أن كاملَ الكفارِ واقعونَ تحت طائلةِ قولهِ تعالى { وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذَيْنِ أضلانا } فإنه لا يجب أن نُخرجَ جيلاً أو اثنين أو أكثر منهم من تحت طائلةِ هذا القول الكريم ، وبالتالي كلَ جيلٍ يوازى أجيالهم من المؤمنين ، وهو ما يقتضيه المنطقُ والحكمةُ لأنهما ( أي المنطقُ والحكمةُ ) ينتفيان بنفي افتتانِ كاملَ الأمةِ وانحصار الفتنةِ فقط في جيلِ آخرَ الزمانِ . ولا يعني كونَ الدجالِ ليس علامةً من علاماتِ الساعةِ ، أن يتعارضَ مع وجهةِ النظرِ القائلةُ بقتلِهِ على يدِ عيسى بنُ مريمَ في آخرِ الزمانِ ، كما لمْ تتعارضُ وجهةُ النظرِ هذهِ ـ لو صحتْ في البحثِ ـ مع رؤيتِنا بكونِ فتنتهِ واقعةٌ في الأمةِ منذ مهدها ، إذ يُمْكِنُ فقط اعتبارَ نهايتِهِ هي العلامةُ وليس مجردُ ظهورِهِ الذي لا نعتبرُهُ ظهوراً على حقيقتِهِ ، وإنما فقط دِلالةٌ على إعمالِهِ ، لو صحت كما قلتُ وجهةُ النظرِ القائلةُ بنزولِ عيسى عليهِ السلام .
ثالثاً ـ
عدمُ علمَ الأنبياءَ والرسلَ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ مُسْبقاً بطبيعةِ الفتنةِ وكيفيتِها ، ولا حتى بميعادِ وقوعِها .. وذلك لضرورةِ إخفاءَ أمرِها حتى لا ينتفي معناها ، ولا تنتفي منها الجدوى . ويدعمُنا في ذلك .. حادثةُ عبادةِ بني إسرائيلَ للعجلِ وقد كان فيهم نبيَّاهُم عليهما الصلاةُ والسلام ( موسى و هارون ) ، وإنما قد يُخْبَروا بضرورةِ وقوعِها فقط ، مما يؤيدُ بقوةٍ رفضَنا لكلِ ما وصلَنا مِنْ تُراثٍ في شأنِ الدجالِ أو معظمه ، كما يؤيدُ تصرفُنا بتأويلِ بعضَ ما ورد .
رابعاً ـ
أن هذهِ الفتنةَ التي تصيبُ الأممَ والجماعاتِ ، إنما هي فتنةٌ لاختبارِ عقولَ المؤمنينَ ، و تمحيصِ السفهَ مِنَ الرشدِ فيها ، وليس كما هو شائعٌ لاختبارِ الإيمانَ مِنْ عدمهِ . ويدعمُنا في ذلك أن بني إسرائيلَ قد وقعوا فيها بسفههم وليس بضعفِ إيمانِهم ، لأنه لو كانت عبادتُهم للعجلِ عن ضعفِ إيمانٍ لَمَا ندموا ورأوا أنْ سُقِطَ في أيديهم ، ولَمَا ارتضُوا بشرطِ التوبةِ بقتلِ أنفسِهم حتى قتلَ بعضُهم بعضاً بما يقرب ـ حسب المفسرين ـ السبعينَ ألفاً .. وإنما فقط فتنهم الدجالُ ( السامري ) بإقناعهم أن هذا العجلَ إنما هو إلهُ موسى ولكنه نسيَ موعدَهُ هنا فذهب إليهِ هناك ، ولكن هذا لم يكن يمنع خروجهم مِنَ الإيمانِ بعبادتهم العجلَ ، حتى تكونُ التوبةُ بالقتلِ كفارةُ ذلك ليغفرَ لهمُ اللهُ ، مما يعني ، أهميةُ العقلَ والرشدَ للإيمانِ وضرورتِهِ ، وهو تأكيدُ قولُ نبيُنا الكريمُ " المؤمنُ كيْسٌ فطنٌ " .. فالسفهُ قد يُخرجُ مِنَ الإيمانِ بالفتنةِ .
خامساً ـ
لم تكن فتنةُ الدجالِ خاصةً بالأممِ المؤمنةِ وحسب ، بل هي فتنةٌ لكلِ البشرِ كافراً كان أو مؤمناً ، كما أن شيطانَ الجنِ إبليسُ لهم جميعاً أيضاً فتنةٌ ، وإلَّا ما كان للكافرينَ أن يطلبوه يومَ القيامةِ لينتقموا منه جراء إضلاله لهم .
سادساً ـ أن الدجالَ لم يكن ليظهرَ قط ظهوراً عاماً ويخالطُ العامةَ والدهماء ، كما لم يظهرَ للبشرِ إبليسُ ، و إلَّا لعرفَهُ يومَ القيامةِ عامةُ البشرِ ممن أضلَّهم ، ولم يطلبوا من ربِهِم أن يُرِيَهُ لهم .. ذلك أنهم يجهلوهُ شكلًا وسمْتاً لاستخفائهِ عنهم في الدنيا ، كما يجهلونَ إبليسَ لاستخفائهِ أيضاً عنهم ، ولو أن ظهورَهُ خاصٌ بأجيالِ آخرَ الزمانِ ، لكانتْ أجيالُ آخرَ الزمانِ دليلهم عليهِ ، وما كانتْ هناك حاجةً لطلبِ رؤيتِهِ مِنْ الربِّ عز وجل .. وفي اعتقادِنا أن ظهورَهُ في بني إسرائيل إما أن يكون كما قلتُ للخاصةِ ممن يعاونوه فلم يرهُ عامةُ بني إسرائيلَ و دهمائهم ، و إما أن يكون ظهورُهُ فيهم عامَّا كاستثناءٍ مِنْ بينِ الأممِ ، وفي هذه الحالةِ لا يدخلُ بنو إسرائيلَ في عمومِ الكافرينَ الطالبينَ مِنْ ربهم رؤيةَ مَنْ أضلَّاهم ، دونما أن يكون لهم تأثيرٌ في كسرِ العمومِ لقلةِ نسبتهم إلى سائرِ الكافرين .
سادساً ـ أن الدجالَ لم يكن ليظهرَ قط ظهوراً عاماً ويخالطُ العامةَ والدهماء ، كما لم يظهرَ للبشرِ إبليسُ ، و إلَّا لعرفَهُ يومَ القيامةِ عامةُ البشرِ ممن أضلَّهم ، ولم يطلبوا من ربِهِم أن يُرِيَهُ لهم .. ذلك أنهم يجهلوهُ شكلًا وسمْتاً لاستخفائهِ عنهم في الدنيا ، كما يجهلونَ إبليسَ لاستخفائهِ أيضاً عنهم ، ولو أن ظهورَهُ خاصٌ بأجيالِ آخرَ الزمانِ ، لكانتْ أجيالُ آخرَ الزمانِ دليلهم عليهِ ، وما كانتْ هناك حاجةً لطلبِ رؤيتِهِ مِنْ الربِّ عز وجل .. وفي اعتقادِنا أن ظهورَهُ في بني إسرائيل إما أن يكون كما قلتُ للخاصةِ ممن يعاونوه فلم يرهُ عامةُ بني إسرائيلَ و دهمائهم ، و إما أن يكون ظهورُهُ فيهم عامَّا كاستثناءٍ مِنْ بينِ الأممِ ، وفي هذه الحالةِ لا يدخلُ بنو إسرائيلَ في عمومِ الكافرينَ الطالبينَ مِنْ ربهم رؤيةَ مَنْ أضلَّاهم ، دونما أن يكون لهم تأثيرٌ في كسرِ العمومِ لقلةِ نسبتهم إلى سائرِ الكافرين .
سابعاً ـ
أن هذا الدجالَ على صلةٍ بالملأ الأعلى في السماء ، مما يعني أنه ممدودٌ بحبلٍ مِنَ اللهِ تعالى فلا يستطيع أن يخرج عن مشيئةِ الله في إحداثِ فتنِهِ ، بدليل قدراتِهِ التي تفوقُ قدرات عامةَ البشرِ كرؤيتِهِ جبريلَ دونهم ، و كصنعِهِ عجلاً لبني إسرائيلَ له خوارٌ .. وبدليلِ قولُ نبي اللهِ موسى عليه السلام لربِهِ ( إن هي إلَّا فتنتك تُضل بها من تشاء و تهدي من تشاء ) ، مما يؤكدُ قولنا فيه أنه ممدودٌ بحبلٍ من اللهِ تعالى في إجراءِ فتنته ، وأنه لا يستطيع الخروجَ عن مشيئةِ الله .
على ضوءِ هذهِ الأحكامِ المستخلصةُ مِنْ دراستِنا السابقةِ ، حولَ حقيقةَ الدجالِ في القرآنِ الكريمِ .. سوف نرتكزُ في كثيرٍ مِنْ أبحاثِنا القادمةِ إن شاءَ اللهُ تعالى .
على ضوءِ هذهِ الأحكامِ المستخلصةُ مِنْ دراستِنا السابقةِ ، حولَ حقيقةَ الدجالِ في القرآنِ الكريمِ .. سوف نرتكزُ في كثيرٍ مِنْ أبحاثِنا القادمةِ إن شاءَ اللهُ تعالى .
ياسر شلبي محمود
كاتب و مفكر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق