اخر الاخبار


السبت، 4 يوليو 2020

الدجالُ .. فى القرآنِ الكريمِ ،الجزء الثالث-الكاتب ياسر شلبي محمود

الدجالُ .. فى القرآنِ الكريمِ ، الجزء الثالث

ولم يكن الدجالُ ذِكْرَهُ فى القرآنِ الكريمِ ، قاصرٌ وحسب على ماذكرتُ من آياتٍ من سورةِ الناسِ ، وكذلك الآية 29 من سورةِ فُصلت ، وإنما جاء ذكرُهُ فى مواضِعٍ كثيرةٍ سوف نتناولُها جميعاً ـ إن شاءَ اللهُ تعالى ـ كلٌ فى موضِعِهِ ، غيرَ أنَّ ما لفتَ نظرى كثيراً وأنا أكتبُ سيرةَ نبى الله موسى بن عمران عليه السلام ، هى قصةَ السامرى ، حيثُ توقفتُ عندها كثيرا ، لما تأكد لدىَّ .. أن السامرى ليس إلا ما عَرَفَتْهُ أمتُنُا " بالمسيحِ الدجالِ " ، غيرَ أنهُ ـ وسداً للذرائعِ ـ يجبُ التأكيدُ أولاَ على ماسبق ، بما يقطعُ الشكَ باليقينِ فى عدةِ نِقاطٍ هى :
أولاً ـ التأكيدُ على كونِ المطلوبَيْنِ فى آيةِ فُصِّلَتْ فردينِ وليسا فريقينِ . حيثُ إن هناك مِنَ المفسرينِ مَنْ يرى أن المقصودَ ( بالذَيْنِ أضلانا ) فريقينِ من مُضِلِّى الإنسِ والجنِ ، وأنَّ اسمَ الإشارةِ " الذَيْن " إنما جاء للتعبيرِ عن ذلك ، مما يجعلُ المقصودَ هم عامةُ المُضِلِّينَ من الإنسِ والجنِ معاً . إلَّا أننا نرى فى ذلك الرأى نفياً قاطعاً لبلاغةِ القرآنِ الكريمِ وفصاحتِهِ ، لأن الفصاحةَ والبلاغةَ تقتضى حسبَ هذا الرأى، أن تأتى لفظتَّا " نجعلهُما " و " ليكونا " على هيئةِ الجمعِ لا المثنى لتصبحا " نجعلهم " و " ليكونوا "، لأن فى حالةِ الجمعِ هذهِ لا يجب أن يمتدَ اسمُ الإشارةِ " المثنى " ، إلى ما بعدِهِ مِن ضميري " نجعلهم ، وليكونوا " ، على أساس أن التعبيرَ عن التلاحمِ الفعلى بين ( الذين كفروا ) ، وبين ( مجموعِ الذين أضلوهم من الإنس والجنِ ) ، يقتضى وفقَ الفصاحةِ والبلاغةِ حتما ، أن يكونَ بالجمعِ ليشملَ مجموعِ " مَنْ أَضَلَّ من الفريقينِ ، فى مواجهةِ مجموعِ الذين كفروا فرداً بفردٍ ، حتى يتمكن كلُ كافرٍ من الانتقامِ مِنْ خِصمِهِ هو بالذاتِ . ولمَّا كانَ نفىُ الفصاحةِ والبلاغةِ أمراً مستحيلَا وقوعُهُ فى القرآنِ الكريمِ ، فإن حَمْلَ المعنى على القصدِ بفريقينِ مِنَ المُضِلِّينِ وليسا فردينِ بعينيهما يكونُ باطلاً .. ولنا فى ذلك المثلُ مِنْ قولِهِ تعالى :
{ وَإنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ... } مِنَ الآيةِ 9 مِنْ سورةِ الحُجُراتِ . حيثُ تتجلى البلاغةُ والفصاحةُ هنا فى قولِهِ أولاً ( طائفتانِ ) حيثُ كلُ طائِفَةٍ منهما تمثلُ كتلةً متماسكةً بذاتِها ، فالتعبيرُ عنهما يقتضى المثنى ( كتلةً فى مواجهةِ كتلةٍ ) ، بينما عَبَّرَ عنهما اللهُ تعالى بالجمعِ فى قولِهِ ( اقتتلوا ) برغمِ أنهما مثنى ، لأن الكتلتينِ المتماسكةُ كلٌ منهما فيما بينِ أفرادِها مِنْ حيثُ المشاركةُ الوجدانيةُ فى الوصفِ المعنوى ، صارتْ عند فعلِ الاقتتالِ المادى منفكةً إلى أفرادٍ تتقاتلُ فى مواجهةِ أفرادٍ أُخر ، فكانَ الاقتضاءُ بالجمعِ لا المثنى فى الإشارةِ إليهما حتمىٌ فصاحةً وبلاغةَ .. فى حينِ عادَ سبحانه إلى المثنى فى الإشارةِ إليهما بقولِهِ ( بينهما ) فى الأمرِ بالصلحِ ، لأن الصلحَ هنا لا يقتضى أن يكونَ بين أفرادِ كلَ طائفةٍ ، وإنما يقتضى فقط أن يكونَ بينَ زَعِيمَيّْهِما وحسب ، فكانتْ الإشارةُ بالمثنى أبلغَ وأفصحَ .. وهكذا يجرى القياسُ ويتفقُ بين فصاحةِ وبلاغةِ القرآنِ الكريمِ فى هذهِ الآيةِ .. وبين ما تقتضيهِ البلاغةُ والفصاحةُ فى آيةِ فُصلت .
ثانياً ـ لما ثبتَ الآنَ أن المقصودَ ( بالذَيْنِ أضلانا ) فردينِ لا فريقينِ ، فإن الضرورةَ تقضى حتماً وقوعَ التساوى فى القامةِ وفعل الإضلالِ بين كلٍ مِنْ مُضِلِّ الإنسِ ومُضِلِ الجنِ ، مما يعنى حتماً ، أنَّ طلبَ الرؤيةِ خاصٌ هو برأسِ شياطينِ الإنسِ ، ورأسِ شياطينِ الجنِ لا لعامتِهِم مِنْ هنا وهناك ، مما يصدُقُ ـ بالضرورةِ ـ وصفُ شيطانٍ لِمُضِلِّ الإنسِ فى الآيةِ ، وبخاصةٍ أن مُضِلَ الجنِ معلومٌ هو بالضرورةِ أنهُ إبليس.
أما ما يخصُ شخصيةَ السامرى ، فإن الكلامَ عنهُ من خلالِ تفسيراتِ السلفِ من العلماءِ لا يُجدى ، ولا يأتى منهُ منفعةً ، وعلى من يريد أن يرجع إلى تفسيراتهم .. ويكفى أن أُشيرَ فقط إلى نكتةٍ وجدتُها فى تفسيرِ ابن كثيرٍ ، حيثُ أوردَ أن اسم السامرى هو موسى ، وأنه قد قيلَ أن اسمه هارون أيضا ولم ينكر ذلك الخبلَ الذى يجعلُ اسمهُ اسمىِّ نبيَّا الأمةِ التى أضلها . أما كونى أرى السامرى أنه " الدجال " ، فإنما يعودُ للأسبابِ الأتيةِ :
أولاً ـ أنَّ السامرىَ كان رجلاً فوقَ العادةِ بينَ مُعاصريِهِ من عامةِ الناسِ . حيثُ قال المولى على لسانِهِ { بصُرتُ بما لم يَبصُرُوا بهِ * فقبضتُ قبضةً من أثرِ الرسولِ فنبذتُها } ، وكان من نتيجةِ ذلك أن أخرج لهم عجلاً لهُ صوتٌ مما جعلهم يُفتنونَ به ، لأنهم لم يجدوا فيهِ ـ على جريانِ العادةِ ـ مما يُشْبِهْ ما يعلمون .. كما أن عمليةَ الإبصارِ ذاتِها سواءٌ كانتْ علماً أو رؤيةً ، فإن فيها دلالةً على التميزِ الغيرِ عادى ، وهو كتميزِ الأنبياءِ على سائرِ الناسِ ، وليسَ كتميزِ الأقرانِ بعضهم على بعضٍ ، مما يوحِى ويشي بأنهُ ممدودٌ بحبلٍ من السماءِ لتمكينِ اللهُ لهُ فى جَعْلِهِ فتنةً للخلقِ.
ثانياً ـ أنهُ كان خارجاً عن سيطرةِ نبى اللهِ موسى عليه السلام ، فلم يُخَوَّلَ فى عقابِهِ ولم يستطع ، رغم غضبِهِ الشديدِ الذى أسكتَهُ عن النطقِ وعن الكلامِ فترةً ، حتى سكتَ عنهُ الغضبُ وهدأ ، إلا أن ذلكَ الغضبَ الشديدَ ، قد انعكسَ فى أفعالٍ عنيفةٍ ، كأخذِهِ بلحيةِ أخيهِ ( النبى ) وبرأسِهِ ، وكإلقائِهِ الألواحَ بعنفٍ حتى انكسرتْ رغم قدسيتِها .. ومن المعلومِ أن رجلاً نبياً بتلكِ الثورةِ وفى ذلكِ الغضبِ ، وبلغَ من العنفِ فى الحقِ مبلغاً ، لم يكن ليدعهُ دون عقابٍ ودونما جزاءٍ ، غيرَ أنهُ لايقعُ تحتَ نفوذِ تسلُطِهُ ، كتسلُطِهِ على سائرِ الناسِ ممن تقع منهم أفعالٌ تستوجبُ تسلُطاً و عقاباً ، وقد عُوقِبَ بالفعلِ مَنْ عبدوا العجلَ بالقتلِ فما بالُ مَنْ صَنَعَهُ حيثُ كان عقابُهُ أولى ولو لم يكن منهم ، مما يدعمُ بالتالى البندَ الأولَ من أنهُ رجلاً فوق العادةِ وممدودٌ بحبلٍ منَ اللهِ لإنفاذِ مهمتِهِ .
ثالثا ـ إن فى قولِ نبي اللهِ موسى عليهِ السلام للسامرى { اذهب فإن لك فى الحياةِ أن تقولَ لا مِساس * وإن لك موعدا لن تخلفه } دلالةٌ على عدةِ معانٍ نستخلصُها فى هذه النقاط : 1 ـ أن السامرىَ يعيشُ حياةَ البشرِ كلِهم منذ خُلِقَ هو وإلى قيامِ الساعةِ ، وليست له حياةٌ محدودةٌ كحياتِنا نحنُ ، مما يوحى بأنهُ مُنظراً كإبليسٍ كما أسلفتُ وذكرتُ إلا أن قصةَ نظرِهِ لم تُقصَّ علينا كما قٌصَّ علينا نظرُ إبليس ، لأن إطلاقَ لفظَ الحياةِ إنما يدلُ على ذلك ، وإلا كان قد قالَ " فى حياتِكَ " بدلاً من قولِهِ " فى الحياةِ " أى فى حياةِ الدنيا . 2 ـ كما نرى فى قولِهِ عليهِ السلام { أن تقولَ لا مساس } أن لذلك الرجلَ تَعَوُّذٌ مِنَ البشرِ ، كتعوذِ البشرِ مِنْ الشيطانِ .. حتى لا يستطيعَ أحدٌ إيذائِهِ أو قتلِهِ ، فإنه يصيرُ فى مَنَعَةٍ بمجردِ أن يقولَ " لا مساس " ، وفى ذلك تأكيدٌ أيضاً أنه ممدودٌ بحبلٍ مِنَ اللهِ ومنعةٍ لإنفاذِ مهمتِهِ . 3 ـ نرى فى الجملةِ بعناصِرِها الثلاثةِ " فى الحياة " ، و" لا مساس " ، و" لك موعدا لن تخلفه " ، تبريرا لنبى الله موسى مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ أمام السامرى ، لعدمِ إقدامِهِ على قتلِهِ ، بأنهُ مُخَلَّدٌ فى الحياةِ ، و بأنه تعوذَ منه ، وبأن له موعدا فى آخرِ الحياةِ يكونُ فيهِ موتِهِ حتماً ، مما لا يُجْدِى معه أن يقومَ هو بفعلِ الإماتةِ قتلا ، مما يعكسُ ـ بمفهومِ المخالفةِ ـ رغبةً شديدةً دفينةٌ هى فى نفسِهِ عليهِ السلام فى قتلِهِ ، ومما لا شك فيه أنه عليهِ السلام قد عَلِمَ من اللهِ طبيعةَ السامرى وحيثياتِهِ التى ذُكِرَتْ فى الآيةِ عند إخبارِهِ بهِ .
رابعاً ـ عندَ إخبارَ اللهِ عز وجل نبيهُ الكريمِ بأمرِ السامرى ، فإنهُ تعالى قد ربِطَ بين إضلالِ السامرى لقومهِ وبين كونِهِ فتنةً منهُ سبحانه حيث قال : { فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامرى } ، مما يؤيدُ بشدةٍ كل ماجاء أعلاهُ من أن السامرى إنْ هو إلا فتنةَ اللهِ فى الأرضِ وليس مجردَ شخصٍ عابرٍ فى حادثةٍ عابرةٍ ، ولم يكن يُعرفُ قطٌ فى البشرِ بتلكِ السماتِ ، سوى داعى الفتنةِ " الدجال " الذى حذَّرَ منهُ الأنبياءُ أُممَهم عبرَ العصورِ ، ولذلك قال نبىُ اللهِ موسى معتذراً إلى ربِهِ { إِنْ هى إلَّا فتنتُكَ تُضِلُ بها مَنْ تشاءُ وتهدى مَنْ تشاء } ، ولم يكن معلوماً أحدٌ مِنَ البشرِ جعلهُ اللهُ فتنةً للأممِ سوى ( الدجالُ ) .. وإلى التكملةِ بإذنِ الله .

ياسرشلبى محمود
كاتبٌ ومفكر


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق