اخر الاخبار


الأربعاء، 1 يوليو 2020

الدجالُ فى القرآنِ الكريم الجزء الثانى -الكاتب ياسر شلبى محمود


الدجالُ  فى القرآنِ الكريم 

( تكملة )

ليس لنا بدٌ ، من أن نذكرَ لك عزيزى القارئ مايجولُ بخاطِرِنا ، حول ماسلفَ وقدمتُ من أياتٍ كريمةٍ فى الجزءِ الأولِ من هذا المقالِ الذى يجب قراءتِهِ لمَنْ لمْ يقرأهُ قبلَ أن يقرأَ هذا الذى بينَ يديهِ ، وهى الأيةِ (29 ) من سورة فُصِّلَتْ ، والأيات الثلاث الأخيرةِ من سورةِ الناس ، وما علاقتُها جميعاً بالدجالِ ، ولكن ليس قبل مانُكملُ تفنيدِنا لرأى مَنْ سبقونا مِنْ سالِفِ علمائِنا الأجلاءِ وأسبابِهِ .
ويعودُ رفضُنا لِما وصلَ إلينا مِنْ تراثٍ فى تفسيرِ هذهِ الأياتِ إلى مايلى :
أولاً ـ إنفكاكُ الصلةُ بين جريمةِ ( الذِينَ كفروا ) ، وبين جريمةِ ( قابيل ) حتى يُقالُ أنهُ أحدُ المعنِّيَيْنِ ( بالذَّيْنِ أضلَّانا ) من الإنسِ .. فجريمةُ قابيلُ كما هو معلومٌ بالضرورةِ كانت القتلُ ، بينما كانت جريمةُ الذِينَ كفروا وحُشُروا بها فى نارِ جهنم ، إنما هى جريمةُ الشركِ باللهِ الواحدِ والكُفْرَ بهِ.
ثانيا ـ لايُمكِنُ بحالٍ تقسيمَ جرائِرَهم وتوزيعها بينَ ( الذَّيْن أضلانا ) ، وهما ابليس وقابيل ـ كما يقولُ بعضُ العلماءِ ـ مِنْ إرجاعِ الرغبةِ فى الانتقامِ مِنْ إبليسٍ إلى ماتسببه من إشراكِهِم باللهِ وكفرِهِم بهِ ، ثم من إرجاعِ رغبتهم فى الانتقامِ من قابيلٍ إلى ماتسببه من سنِّ جريمةِ القتلِ لهم ، لأن الضرورةَ تقتضى وحدةُ جريمةُ الضلالِ المقرونةُ بطلبِهِم ، و التى يُحاسَبُوا عليها بينَ يَدَى اللهِ فى الأخرةِ ، وفقَ ماتقتضيهِ الضرورةُ أيضاً من اشتراكِهِم جميعاً فى جريمةِ الشركِ دونَ القتلِ فى الدنيا ، لأنهُ بكلِ بساطةٍ ، ليس كلُ كافرٍ قاتلٌ .. بينما كلُ كافرٍ هو بالضرورةِ كافرٌ و مشركٌ باللهِ .
ثالثاً ـ لكونِ قابيلَ ضحيةً مثلهم للشيطانِ الرجيمِ ـ كما أوضحنا فى مقال " مملكة الغربان " ، فإن الضرورةَ تقتضى أن يجرى 
عليهِ ماجرى عليهم من رغبةٍ فى الانتقامِ مِنَ ( الذَّيْنِ أضلاه ) مِنَ الإنسِ والجنِ ، لأن صيغةَ الجمعِ فى قولِهِ تعالى ( وقال الذِينَ كفروا ) ، إنما تفيدُ عمومَ الكافرينَ منذ بدء الخليقةِ وحتى قيامَ الساعةِ ، وكان قابيلُ كما هو معلومٌ من أوائلِ الذينَ كفروا بجريمتِهِ إن لم يكن أولهم على الإطلاقِ ، مما يجعلُهُ بالضرورةِ أيضاً ممن قالوا ( ربنا أرنا الذَّيْنِ أضلانا .... ) .
رابعاً ـ إن القَصَاصَ مِنَ المحرِّضِ باعتبارِهِ محرِّضاً فعلياً، إنما يقتضى توافُر علاقةَ السببيةِ المباشِرةِ فى عمليةِ التحريض ، حتى تكونُ الرغبةُ فى القَصَاصِ والانتقامِ لها وجهٌ مِنْ وُجُوب . فلايجوزُ بحالٍ القولُ بإضلالِ قابيلُ للكافرينَ وتحريضِهم على القتلِ ، ولقد انتفت المباشرةُ بين فعلهِ هو وبين مَنْ فعلَ فعلِهِ مِنْ أجيالٍ كثيرةٍ تعاقبتْ عليه . فلا يجوزُ مثلاً أن نتصورَ مرتشياً يرغبُ فى القصاصِ مِنْ مرتشٍ مثله قد سبقه فى العملِ الوظيفى وقد أُحِيلَ إلى إنهاءِ الخدمةِ منذُ سنين . ولكن فى حالةِ قابيل .. يمكن فقط حملِهِ وزرَ مَنْ فعلَ فعلتِهِ ـ حسب الأثرِ الشريفِ ـ باعتبارِهِ أولَ مَنْ قتلَ فى البشريةِ ، دونما حاجةَ مَنْ قَتَلَ بعدِهِ فى القَصَاصِ منهُ ، لأنهُ ليس السببَ المباشرَ فى ارتكابِ فعلتِهِ .. بل الشيطانُ ونفسُه هما السبب .
ولكن يظل السببينِ الأولُ والثانى هما الأوجَه عندنا والأقوى ، فى رفض أن يكون قابيلُ هو المقصودُ بالمُضِلِ من الإنسِ حسبَ رأى المفسرينَ الأجلاء ، إلَّا أن السببَ الثالثَ والرابعَ لن تبرُزَ قوتُهُما بوضوحٍ ، إلَّا حينَ نقتربُ أكثرَ مِنْ تحديدِ شخصيةِ الدجالِ ، ولكن عموماً ومماسبق ، لم يعُد جائِزاً اعتبارَ قابيلَ هو المَعْنِّى بالمُضِلِ مِنَ الإنسِ فى الأيةِ الكريمةِ ، على أساسِ ماقالَ بهِ العلماءُ أنه أولَ مِنْ سنَّ للبشريةِ جريمةَ القتلِ ، لأنه ـ كما ذكرتُ ـ ليس كلُ كافرٍ اقترفَ تلكَ الجريمةِ ، ولأن جريرَتَهُم يومَ القيامةِ هى الكفرُ باللهِ تعالى ، وكل مادونَ ذلكَ مِنْ معاصٍ مجبوبٌ بهِ ، لأنهُ ليس أعلى مِنْ جريمةِ الكفرِ جريمةٌ .
أما بخصوصِ سورةِ الناس ، فإنا قد نرى الذين قالوا بوحدةِ الوسواسِ وحصرِهِ فى الجنِ دون الإنس قد شطُّوا شططاً كبيرا عن الحقِ ، وأما الذين قالوا بتنوعِه بين الإنسِ والجنِ معا ، رغمَ أنهم يرجعونَ وسواس الإنسِ إلى صديقِ السوءِ ، فإنا نراهم قد شطروا الشططَ شطرينِ ، حيثُ أصابوا فى تنوعِ الوسواسِ ولم يصيبوا فى جعلِهِ صديقَ السوءِ ، لأنهُ ـ بكلِ بساطةٍ ـ لايمكنُ ولا يجوزُ بحالٍ نعتَه بأنه خناس ، فهذا لايحدثُ فى الواقعِ المُعاشُ ، ولا يجوزُ نعته أيضاً بأنه شيطانٌ ، باعتبارِ ان الوسوسةَ دوماً ماتكونُ هى من فعلِ الشيطانِ ، وليس مَنْ يُسدى مجردَ نصيحةٍ سيئةٍ قاصداً أو غيرَ قاصدٍ ، لأنه فى الغالبِ مايكونُ صديقَ السوءِ شخصاً حميماً ، كالأصدقاءِ وكالأهلِ من زوجةٍ وأبناءٍ وأخوةٍ ، كما قد يكونُ الأبُ والأمُ معا .
أما مانراهُ نحنُ فى تلك الأياتِ الكريمةِ ، مِنْ أن المَعَنِّى فيها ـ فى كلا السورتينِ ـ هما الدجالُ مِنَ الإنسِ .. وإبليسُ الرجيمُ مِنَ الجنِ ، فإن ذلك يكونُ وُفقَ البراهينِ الأتيةِ :
أولاً ـ الارتباطُ الوثيقُ بين سورةَ الناسِ وبين الأيةَ 29 من سورةِ فُصلت :
فبينما تكلمت الأية 29 من سورةِ فُصلت ، عن اثنينِ من الإنسِ والجنِ لا ثالثَ لهما ، فى قولِهِ تعالى على لسانِ الذينَ كفروا ( ربنا أرنا الذَّيْن أضلانا من الإنسِ والجنِ نجعلهما .... ) ، إنما يوحِى ذلك أن الذينَ كفروا ، يعنون تحديداً شخصين اثنينِ متكافئينِ فى الإضلالِ والشيطنةِ ، مما يفيدُ بالضرورةِ أنهما رأسَ الشيطنةِ معاً ، وأنهما ـ أيضاً معاً ـ رأسَ الشياطينِ جميعاً ، سواءٌ مِنَ الإنسِ كانوا أو مِنَ الجنِ .. وفى حين تتكلمُ سورةُ الناسِ عن ( الوسواس الخناس * الذى يوسوسُ فى صدورِ الناس ) ، والذى لايُمكنُ بحالٍ إلا أن يكونَ شيطاناً ، فإن الارتباطَ بين السورةِ والأيةِ قد تم ضرورةً وحتميةً .
ثانياً ـ إن عمومَ الكافرينَ الدالُّ عليهِ قولُهُ تعالى ( وقال الذينَ كفروا ) فى الأية 29 ، والمقتضى هو وفقَ المنطقِ ، أن يكونوا كفارَ كلَ العصورِ وليس عصرنا هذا وحسب ، ولا عصرا محدداً عبر الزمنِ وفقط .. إنما يفيدُ بالضرورةِ والحتميةِ أيضا ، أن الذَيْن أضلاهم مُتَوازِيَيْنِ ( فى الوجودِ الزمنى ) مع الذين كفروا عبرَ كلِ العصورِ ، مما يتنافى يقيناً أن يكونَ الوسواسُ الخناسُ مِنَ الإنسِ فى سورةِ الناسِ هو صديقَ السوءِ ، لأنهُ ـ بكلِ بساطةٍ ـ لوكان صديقَ السوءِ مااشتركوا جميعاً فى طلبِهِ وهو شخصٌ واحدٌ محددٌ مع إبليس ، ولكان انشغلَ كلٌ منهم بصديقهِ هو الخاصُ بهِ وحدهُ وقد يكونُ أكثرَ مِنْ صديقٍ ، ولكان التعبيرُ بالجمعِ بدلَ المُثنَّى فى الطلبِ ، ممايعنى أن الوسواسَ الخناسَ فى سورةِ الناسِ ، ليس إلا الذى تعرفه أمتُنا بالمسيحِ الدجالِ .. ذلك الشيطانُ الإنسِّى الذى تعرَّضَ للأممِ عبرَ العصور .
ثالثاً ـ مادامَ الارتباطُ قد تم على هذا النحوِ بين سورةِ الناسِ ، وبين الأيةِ 29 من سورةِ فصلت ، فإن المنطقَ يقتضى، أن تعيينَ الكفارُ للمضِلَّيْنِ بأنهما من الإنسِ ومن الجنِ معاً .. يجعل الأية { من الجِنَةِ والناس } فى سورةِ الناسِ ، مرتبطةً ارتباطاً وثيقاَ بالأيةِ { الوسواس الخناس } ، وليس لها ارتباطٌ قط بالأيةِ { فى صدورِ الناس } ، مما يعنى مع ماسبق ، أن الوسواسَ الخناس ، هو شيطانُ الإنسِ ( الدجال ) ، وشيطانُ الجنِ ( إبليس الرجيم ) .
رابعاً ـ إن لفظةَ " أرِنَا " فى قولِهِ تعالى حسبَ قولِ الكافرينَ { أرِنَا الَّذَيْنَ أَضَلَّانَا .... } إنما تفيدُ عدمَ رؤيتَهُم لهما قطٌ فى الدنيا ، وأنهم يجهلونَ ملامحَهُما وكذلك هو حالُ الشيطانِ ، ولا تَفيدُ اختفائِهما فى ذلك المشهد الرهيب وإن كانا مختفيانِ فعلاً أو غيرَ مختفيَيْنِ ، مما يؤكدُ المعنى فى قولهِ تعالى فى سورةِ الناس { الوسواسِ الخناسِ } ، حيثُ الوسواسُ هو الصوتُ الخافتِ .. والخناسُ هو كثيرُ الاختفاءِ أو دائِمُهُ ، مما يدلُ أن شيطانَ الإنسِ ( المُضِلُ ) الموازِى هو لإبليسٍ عندَ ( الذين كفروا ) ، هو هو ذاتُهُ الوسواسُ الخناسُ مِنَ الإنسِ فى سورةِ الناسِ .
خامساً ـ ولأنَّ صديقَ السوءِ لايخنسُ على صاحِبهِ ولا يُسمى صوتُهُ إلَّا " نجوى " وليسَ وسوسةً ، فإنه لايمكنُ بحالٍ اعتبارَ أنهُ المقصودُ مِنْ لفظتَّى { الوسواس الخناس } فى الأيةِ الكريمةِ ، وأن المقصودَ أصبحَ معلوماً لنا بالضرورةِ ووفقَ ماسبق ، أنه الدجالُ الذى لايعملُ إلَّا فى خفاءٍ ، وإلَّا مِنْ وراءِ حُجُبٍ ، وهو بذلك خناسٌ بطبعِهِ ، ولما كانَ عملُهُ الشرَ كإبليسٍ فإنهُ يكونُ أيضاً فى خُفُوتٍ وفى همسٍ إلى أوليائِهِ ، أى أنهُ وسواسٌ ، كما سنبينُ لاحقاً إن شاءَ اللهُ تعالى عند تعرُضُنا لكيفيةِ عملِه .
ياسرشلبى محمود

كاتبٌ ومفكر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق