اخر الاخبار


الأربعاء، 17 يونيو 2020

الدجالُ فى القرآنِ الكريم - الاستاذ ياسر شلبى محمود



الدجالُ .. فى .. القرآنِ الكريم


لعلَّنى قد زِدْتُ القارئَ العزيزِ حَيْرَةً بعد تأكيدى مراراً ، أن البشريةَ قد اتخذها الشيطانُ أُلعوبةً يفعلُ بها مايشاء ، و أنه قد أضَلَّ منها جِبلاً كثيراً ـ وهذا حقٌ لأنه مِنْ خبرِ اللهِ لنا فى كتابهِ الكريمِ ـ ، ثم أكدتُ لهُ أن مصيبةَ هذه الأمةِ الإسلاميةِ والبشريةِ معها ، ليس إلا من " داعى الفتنةِ " الجماعيةِ ( فتنةَ الأممِ والجماعات ) ، وهو مانسميهِ نحنُ فى أمتِنا " المسيحَ الدجالِ " . ولعله ـ أى القارئِ العزيزِ ـ قد ربط بين هذا وذاك واعتقد أننا نجعلُ الشيطانَ الرجيمِ هو نفسهُ الدجال ، ومِنْ هنا تأتى الحَيْرَةُ .. فهل الدجالُ هو الشيطانُ فعلا ؟.
نعم ، فالدجالُ فى القرآنِ الكريمِ إنما هو الشيطانُ ، غيرَ أنه شيطانٌ مِنَ الإنسِ جَعَلَهُ اللهُ فتنةً للبشرِ ، كما أن شيطانَ الجنِ فتنةً لهم ، وجعلَهُ اللهُ مُنْظَرَاً كإبليسٍ ، غيرَ أن اللهَ تعالى لم يقُصَّ علينا قصةَ نظرِه ، كما قَصَّ علينا قصةَ نظرِ إبليسَ الرجيم ، ولم يُحَذِّرْ منه البشرَ صراحةً كصراحةِ تحذيرهِ من شيطانِ الجنِ ، غيرَ أن التحذيرَ منهُ قد جاءَ فى كتابِ اللهِ إلَّا أنهُ فى غيرِ صراحةٍ ووضوح . ولعل ذلك الإبهامُ فى الإشارةِ إلى الدجالِ فى كتابِ اللهِ ، إنما مرجَعُهُ اختلافُ كِلا الفتنتينِ ـ فتنةَ الدجالِ وفتنةَ إبليس ـ فى الوظيفةِ والمنهجِ ، كما سنبينُ لاحقاً إن شاء اللهُ تعالى عندما يأتى مقامُ ذلك فى الحديثِ ، وبعد أن نفرُغَ من تحديدِ شخصيته فى القرآنِ الكريمِ .
وشخصيةُ الدجالِ فى القرآنِ الكريمِ ، قد أشار إليها المولى عز وجل باعتبارهِا " شخصيةَ شيطانٍ " فى أكثرِ من موضعٍ ، منها قولُهُ تعالى :
{ وَقَالَ اْلَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا اْلَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ اْلْجِنِّ وَاْلْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ اْلْأَسْفَلِينَ } فصلت:29 .
فى هذهِ الأيةِ الكريمةِ ، يَتَجَلَّى لنا بوضوحٍ شديدٍ البابَ السحرى الذى سننفذُ منهُ ـ بمشيئةِ اللهِ تعالى ـ إلى شخصيةِ الدجالِ كشيطانٍ من الإنس ، وكذلك إلى شخصيةِ إبليسٍ كشيطانٍ من الجنِّ ، وقد تزولُ حَيْرَتُكَ عزيزى القارئ ليحلَ محلها عجبٌ عُجاب ، حين تعلم أن البشريةَ جميعها ضحيةً هى لشخصينِ اثنينِ لا أكثر .. وفى سورةِ الناسِ يتجلى هذا المعنى أكثرَ ويتأكد ، حيثُ يقولُ عز من قائلٍ فى آخرها :
{ مِن شَرِّ اْلْوَسْوَاسِ اْلْخَنَّاسِ * اْلَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ اْلْنَّاسِ * مِنَ اْلْجِنَّةِ وَ اْلْنَاسِ } الأيات .
نعلمُ أن تلكَ الأياتِ الكريمةِ ـ سواءٌ من سورةِ فصلت أو من سورةِ الناس ـ قد تناولها المفسرون من قبلُ ، بغيرِ ذاتِ المعنى الذى نستخلصه نحنُ منهم ، فالأفاضلُ مِنَ مُفَسِّرى السَلَفِ يرون فى أيةِ ( فصلت ) أن المقصودَ " بالَّذّيْنِ أضَلَّانا " مِنَ الجنِ ( إبليسَ الرجيمِ ) ، ومِنَ الإنسِ ( قابيلَ ) باعتباره أولَ مَنْ سَنَّ لهمُ القتلَ .. كما يرونَ فى سورةِ الناسِ أنها إستعاذةُ من شيطانِ الجنِ إبليس ، و كذلكَ مِنْ كلِ صديقَ سوءٍ من الناسِ .. إلا أننا نؤكدُ أن المقصودَ بالوسواسِ الخناسِ الذى هو من الجنِ والإنسِ معاً ، إنما هو شيطانُ الجنِ إبليس وهذا مِنْ جهةٍ ، كما أنه شيطانُ الإنسِ " الدجال " وذاك مِنْ جهةٍ أخرى .. وكذلك هما " الَّذَيْنِ أضلاً البشريةَ " ، حتى يطلبَ الذين كفروا من اللهِ عز وجل ، ان يريهم هذانِ الشيطانانِ كى يُفَجِّرُوا فيهما غَيْظَهُم بعد أن تبين لهمُ الحق .
وفى الحقيقةِ ، ماجاءَ ضلالُ السلفِ عن المعنى الحقِ فى تفسيرِ هذهِ الأياتِ ، إلَّا لِاعتناقِهِم فهماً خاطِئاً وَرَثُوهُ مِنْ رواياتٍ خاطِئةٍ نُسِبَتْ هى إلى السُنَةِ زوراً وبهتاناً كما قدمتُ سَلَفَاً ، فَتَرَّسَخَتْ فى وُجْدانِهِم فكرةَ أن الدجالَ خارجٌ هو فى آخِرِ الزمانِ ، وأن خروجَهُ مِنْ علاماتِ الساعةِ ، وأنهُ خارجٌ فقط فى أُمَتِنا لا لسائرِ الأممِ ، وأنهُ ـ إلى حينِ خروجهِ ـ فهو مُقيدٌ ومسلسلٌ بالحديدِ فى إحدى الجُزُرِ .. ذلك ، إلى جانِبِ اتباعِهِم بعضُهُم بعضَاً فى التفسيرِ . فلو أخذنا مثلاً الأيةَ ( 29 ) مِنْ سورةِ فصلت ، لَوجدناهم جميعاً يتبعونَ المفسِرَ الأولِ ، الذى اعتمدَ فى تفسيرِهِ على روايةٍ منسوبةٍ إلى " على بن أبى طالب " ، عندما سُئِلَ عن ( الذَيْنِ أضلانا ) فقال : هما إبليسُ مِنَ الجنِ وابنُ آدمِ الأولُ الذى قتلَ أخاه . وكان يعنى قابيلَ الذى قتلَ أخيهِ هابيل .. وعلى الرغمِ مِنْ أن الروايةَ ليستْ حديثاً نبوياً ولم يُفصل فى صحتِها مِنْ عدمِهِ ، إلا أنها رسختْ فى عقولهم ، ومرتْ دونَ توقُفٍ مِنْ فهم ، ولذا فإنهم قد ضلوا عن بيانِ المضِلِ مِنَ الإنسِ ، بينما لم يضلوا عن بيانِ المضلِ مِنَ الجنِ لوضوحِهِ فى كتابِ اللهِ .
أما تفسيرُهم لسورةِ ( الناسِ ) فإنك تجدَ فيها ، أثرَ الإنهاكِ فى نهايةِ تفسيرِهم لكتابِ اللهِ واضحاً جلياً ، حيثُ أدخلونا فى متاهةٍ معهم ، أو فى مغارةٍ لاتكاد تعرفَ لها نهايةٍ ، غيرَ أنهم فى تفسيرهم لها ، قد إعتمدوا ـ كالسابقِ ـ المفسرَ الأولِ الذى اعتمدَ هو بدورِهِ تفسيرَ ابن عباسِ الذى نَحْذَرُهُ حَذَراً شديداً ، لِمَا نُسِبَ إليهِ زوراً وبهتاناً مِنْ أقوالٍ لم يقلْها الصَحَابِّى الجليلِ فى إبانِ تكوينِ الخلافةِ العباسيةِ ، وفى الدعايةِ إليها قبل التكوينِ باعتبارِ أن قادتها ورجالها منحدرونَ مِنْ صُلْبِهِ . فقد أرادوا بذلك تقويةِ مُلْكِهِم وترسيخِ دعائِمَهُ ، بأن جعلوا فى بيت ( العباس ) مايوازى فى القيمةِ عند الناسِ مَنْ فى بيتِ ( على ) ، لذلك كان إضطهادُهُم لذرارى ( الحسنينِ ) أشدَ وطأةً مِنْ محاربةِ الدولةِ الأمويةِ المنقضيةِ لهم .
ومِنْ الأقوالِ المنسوبةُ هى لابنِ عباس واعتمدها المفسرونَ فى سائرِ تفسيراتِهِم ، أنهُ يرى فى قولِهِ تعالى { الوسواس الخناس } أنه الشيطانُ يجثمُ على قلبِ المولودِ يلتقمُهُ فإن ذُكِرَ اللهُ خَنَسَ ، وفى روايةٍ أخرى .. أنه يجثم على قلبِ ابنِ آدمِ فإن غفلَ عن الذكرِ وسوسَ وإن ذكرَ خنسَ . وانقسمَ المفسرونَ حولَ الوسواس الخناس مِنْ حيثُ انتسابِهِ إلى الجنِ وإلى الإنسِ ، فمنهم مَنْ يراهُ ينحصرَ فى قرينِ ابنَ آدمِ مِنْ شياطينِ الجنِ الذى هو موكلٌ بهِ مذُ ولادتِهِ وحتى موتِهِ ، وذلك باعتبارِهِم أن الموسوس إليهِ مِنَ الجِنةِ ومِنَ الناسِ على السواءِ .. ومنهم من يرى أن الوسواسَ هو مِنَ الجِنةِ ومِنَ الناسِ على السواءِ ، باعتبارِهم أن الموسوس إليهِ همُ الناسَ وحسب ، غيرَ أنهم يرجعونَهُ إلى صديقِ السوءِ وليس ماذهبنا نحنُ إليهِ مِنْ أنهُ " المسيحَ الدجالِ " .
ونحنُ إذ نفندُ لأراءِ مَنْ سبقونا مِنَ المفسرينَ الكرامِ حولَ الأياتِ الكريمةِ المُتقدِمُ ذكرِها ، فإنا إذاءَ ذلك نبرهنُ على تفنيدِنا بما مايلى :
ياسرشلبى محمود
كاتبٌ ومفكر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق