اخر الاخبار


الجمعة، 19 يونيو 2020

قصة قصيرة -كف القدر - الكاتب محمد خالد محمد



قصة قصيرة / كف القدر

( هذه القصة واقعية حدثت وتحدث كل يوم مع إختلاف بطلاتها فقط ) 


 على كفّ القدر نسير ، ولا ندري ما المصير
" تغريد " فتاة ليست كباقي الفتيات ، فتاة قوية قبل أن يصلبها الزمن كانت كالزهرة الفواحة جمالاً ورونقاً ، لها أريج يترك أثره بكل من يعرفها . كانت روح نابضة بالمشاعر العذبة والأحاسيس المرهفة، كانت كمرآة تعكس لك جمال الحياة ،
ترعرت أميرة مدللة عنوانا للأناقة ، ومما زاد من جمالها خجلها وحيائها الممزوج بفكرها وثقتها وثقافتها ودينها .
ولكن " ليس كل ما يريده المرء يدركه"
نشأت "تغريد" في القاهرة (العامرة) حيث كان أبوها يعمل معلماً وكذلك أمها ، درجت بين شقيقتين كانت أوسطهما ، عاشت "تغريد" مع أب وأم لم يبخلا يوماً عليها وأخواتها بالحب والحنان ،
التحقت أختها "تسنيم" بالجامعة وتحديداً بكلية الطب ، وبعد عامين لحقت بها" تغريد" للدراسة بنفس الكلية ثم التحقت الشقيقة الصغرى "تيسير" بكلية التجارة....
ومرت السنوات
وتخرجت الشقيقة الكبرى "تسنيم" وشاءت إرادة الباري لها الإرتباط بمن اختاره قلبها وهو طبيب حيث سافرت معه بعد إتمام القران إلى العاصمة النمساوية فيينا لاستكمال دراسته هناك ،
ثم تخرجت "تغريد" لتعمل طبيبة بمشفى صغير في إحدى المناطق المتاخمة للقاهرة ، وجدت نفسها شابة في الخامسة والعشرين من عمرها .. أوتيت قدراً كبيراً من الجمال والثقافة غير أنها لم ترتبط بأي إنسان لظروف دراستها والتي بكل تأكيد شغلتها عن التفكير فيما سواها حتى الحب والارتباط والزواج
إلى أن جاء اليوم المنتظر
زميلة لها اتصلت بها تخبرها بأنها تتمنى أن تراها زوجة لأخيها وحدثتها عنه طويلاً وأشادت به ملياً وكما يقول المثل العامي (مين يشهد للعروسة)
غير أن "تغريد" رأت أنه من الضروري أن تراه ويراها أولاً في لقاء عابر حتي إذا تحقق القبول الشكلي والراحة النفسية يقوم بزيارتهم في البيت ، وإذا حدثت الأخرى لم يتعرض أحد للحرج ..
لم يتم هذا اللقاء المنتظر لظروف عمل الشاب ، لكن وبدون سابق إنذار جاء لزيارتها في البيت بعد فترة مع أخته ، ووجدته شاباً مهذباً ، مثقفاً ، وسيماً ، وأنيقاً ،
تحدث الشاب في هذا اللقاء في كل شيء دون التطرق إلى أهم شيء موضوع الخطبة والارتباط ،
وفي اليوم التالي كانت الطامة
اسودت الدنيا في عيني "تغريد" لما فجرت زميلتها في وجهها قنبلة مدوية حيث أبلغتها أن الشاب قد أعجب بشقيقتها الصغرى "تيسير" ويرغب في خطبتها هي دون أختها ، وكانت شقيقتها في ذلك الحين في العشرين من عمرها ولا زالت طالبة في السنة الثالثة بالجامعة ،
شعرت "تغريد" أنها كمن كان يسير في طريقه آمناً مطمئناً وفجأة تلقى صفعة قوية !
لأنها ورغم بهائها ورونقها زكمت الأنوف فلم تعد تشم رائحة طيب الورود
رجعت إلي البيت باكية ثم وقفت أمام المرآة وحدثت نفسها
لماذا فضل أختي علي ؟ لماذا لم أعجبه؟
ولماذا استحققت منه هذه الصفعة لأنوثتي ،
تمالكت نفسها وهدأت ثم صارحت أبيها وأمها وأختها بما حدث فوجم أبواها ، وثارت شقيقتها غاضبة ثم بقوة كبيرة احتضنتها وهي تردد :
(في ستين داهية، محدش هيفرق بيني وبين أختي ) وأصرت علي الرفض ، وأيدها والديها في ذلك وانتهت أولى صدماتها في هذا الموضوع .
وبعد أقل من عام تقدم شاب لشقيقتها الصغرى "تيسير" فرفضته بحجة أنه مازال أمامها عام دراسي آخر قبل أن تتخرج، وكان أبوها وأمها يوافقانها علي ذلك،
لكن "تغريد" كانت على يقين من أن أختها لا ترفضه بسبب الدراسة وإنما مراعاة منها لظروفها فهي تكبرها بسنوات ولم يطرق بابها أحداً ،
بذلت "تغريد " كل جهدها لإقناع أختها الصغرى بقبول هذا الشاب الممتاز حتي نجحت في ذلك وتمت الخطبة بالفعل وبعد عدة أشهر تم الزفاف وكانت "تغريد" أسعد الجميع به..
أنهت " تغريد" الإمتياز والنيابة بعد أن تجاوزت السادسة والعشرين بشهور ، وكانت دائماً ترى الحزن يخيم علي أبيها وأمها لبقائها معهما في البيت بعد أن تزوجت من تكبرها ومن تصغرها ولا زال بابها موصد لا طارق له ..
واصلت " تغريد" حياتها وجاء الأحفاد ليملؤوا البيت صخباً وضجيجاً وضحكاً وحباً ، وأصبحت فجأة خالة لثلاثة أطفال كما أصبحت أيضاً تتجاهل نظرات الإشفاق في عيون أمها وأبيها وأخواتها حين تستغرق في مداعبة الصغار،
شغلت " تغريد " نفسها بعملها حيث التحقت بعيادة طبيب كبير ، ولشدة تفانيها رشحها الطبيب بعد عام للعمل في مستشفي خاص شهير ، وهناك تعرفت بزميل لها يكبرها بعامين متدين حسن الخلق ، وتقاربا كثيراً إلى أن تقدم لخطبتها وسعد الجميع بهما ودامت الخطبة عاما كاملا وبدأ الإستعداد للزفاف..
وقبل عقد القران بيوم واحد تعرض خطيبها لحادث سيارة أودي بحياته ..
انهارت "تغريد" انهياراً كاملاً ودخلت المستشفي وأمضت فيها قرابة الشهرين حتي استعادت قواها ولملمت نفسها واستعانت بربها علي أمرها ، وخرجت من المستشفي إلي منزل خطيبها فاستقبلتها والدة خطيبها و والده بكل فتور ولم يترددا في أن يقولا لها في وجهها أنهما لا يريدان رؤيتها بعد ذلك أبداً لأنها حسب قولهما كانت شؤماً علي ابنهما الذي مات قبل عقد قرانها عليه بأسبوع ..
غادرت تغريد" بيت خطيبها مكتئبة وحزينة وعادت إلي بيتها فدخلت حجرتها واعتكفت فيها أسبوعاً لم تنقطع خلاله عن التفكير في أمرها والتدبر في حالها ولا عن صلاة الاستخارة علَّها تهتدي إلى مبتغاها في الحياة ،
وبعد هذا الأسبوع غادرت الحجرة بقرار كانت قد عزمت عليه أبلغت به أبيها وأمها وهو الهجرة خارج البلاد قاصدة أختها بالنمسا عسى أن تستكمل دراستها بعيدا عن ذكرياتها الحزينة وآلامها القديمة،
احتاجت " تغريد " إلي جهد كبير لإقناع والديها بما أرادت، حتي وافقا على سفرها وابتعادها عنهما وهما في شدة الجزع والإشفاق عليها والحزن لفراقها..
سافرت" تغريد " واستقبلتها أختها وزوجها بكل حفاوة وسرور وكانا يرعاها كأنها طفلتهما...
قررت "تغريد" أن تبدأ من جديد ، فبدأت الدراسة والعمل علي الفور كما التحقت بأحد المراكز الإسلامية بفيينا لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم ،
وشغلت نفسها بكل ذلك واستغرقت فيه إلى ان عادت رويداً إلي طبيعتها السابقة..
منَّ الله عليها بفرصة للعمل بالمستشفي المركزي بالعاصمة فيينا ، وفي يوم اختلفت مع إحدي الممرضات حول طريقة علاج أحد المرضي فأشارت إلي الطبيب النمساوي الذي يرأس مجموعتهم قائلة لها أنه الذي أمر بذلك..
جاء الطبيب على الصوت ووجدت نفسها في مواجهة معه وحين ثارت عليه رد عليّها بهدوء أو علي الأصح بالبرود النمساوي المعروف قائلاً في حسم أنه ينتظرها في مكتبه بعد قليل وانصرف...
توجهت إليه في مكتبه فنهرها على انفعالها في هذا الأمر كما أنها على حد قوله قد تدخلت في تخصصه وأخطأت بأن ناقشت أسلوب العلاج أمام المريض وأهله مما قد يضعف ثقتهم بالمستشفى أو بالعلاج...
وبعد أن أوضح لها أوجه خطئها اعتذر لها عما ضايقها به خلال الحديث وأنهي اللقاء ،ولما همت بالإنصراف من مكتبه فإذا به يقول لها بالعربية:
(مع السلامة يا أجدع دكتورة مصرية ) !
فعرفت في هذه اللحظة فقط أنه مصري وأنها قد خدعت بملامحه الأوروبية فظنته نمساوياً وعلمت بعد ذلك أنه مصري من أب مصري وأم نمساوية،
اقترب كل منهما من الآخر منذ تلك اللحظة، وازدادا اقترابا يوما بعد يوم حتي عرفت كل شئ عنه وعن والدته النمساوية المسلمة وعن تربيته وحياته في الغرب ،
انفجر ينبوع الحب في قلبيهما في آن واحد إلى أن تُوج بالزواج السعيد ففاض حبهما وازداد تجرعهما كؤوس السعادة
عشقت "تغريد" زوجها الحنون عشقاً لا يضاهيه عشق فقد كانت تراه عوض الله لها عما قاسته في حياتها ، ولم تكن تتخيل يوماً أن يكون عوضها في بلد غير بلدها ولكنها إرادة الحكيم العليم..
{ دوماً في أحلك اللحظات التي تسبقُ اليأس يأتيكَ عوض الوهاب أعظم مما كنت تتوقع وأبهى مما عشت ترتبُ له
فقط ثق بفرج الرحمن ومهما تأخر لحكمة لا تعلمها ، ما عليك سوى أن تتأهب لاستقباله ، فعوض الله إذا حل ، أنساك كل ما فقدت}


تمت*****
قصة / كف القدر


الكاتب محمد خالد محمد


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق