اخر الاخبار


الثلاثاء، 14 يوليو 2020

ضمير الغائب -الكاتب أيمن موسى


ضمير الغائب 

( ق . ق )

بأحد مراكز التسوق الكبرى بإحدى المناطق الراقية سيده بنهاية عقدها الثالث بصحبتها فتاة يقترب عمرها من ثمانية أعوام كانتا تتجولان بنشاط وحيوية وهن يطالعن واجهات المحلات التجارية وما تعرضه من بضائع فيدخلن لبعضها يشترين ما راق لهن ويتجاهلن بعضها فى رحلة من التسوق بدت لهن بغاية المتعة .
لم تفطن السيدة لذلك الصبي الصغير ذو السبعة أعوام تقريبًا حتى لكزتها إبنتها برفق وهى تقول هامسة أمي هذا الفتى يراقبنا منذ دلفنا للسوق .
نظرت المرأة حيث أشارت الفتاة بحذر وقد ظنت أنه ربما يكون مدفوع عليهن لمراقبتهن ومن ثم خطف حقيبتها أو إحدى حليها كما سمعت من بعضهن أو قرأت بصفحات الحوادث والجرائم .
و لكن وما أن نظرت إليه حتى وجدته طفلًا ملائكي الملامح أبيض البشرة ذو شعر غزير أسود فاحم يرتدي ملابس فاخرة تدل على رقي مستواه الإجتماعي .
لا تخلو ملامحه من حزن دفين قد بدا جليًا على محياه .
عندما إطمأنت لملامحه تجاهلت الأمر وهى تقول لإبنتها ربما إشتبه عليك الأمر فهو بلا شك يبحث عن والديه .
سارتا بهدوء وهن يتسوقن حتى شعرت الفتاة بالتعب والإرهاق فما كان من الأم إلا أن تصطحبها للكافتيريا لتناول بعض الأطعمة والمثلجات والقهوة .
وما أن إستقرتا على مقعديهما حتى أشارت الفتاة لأمها وهى تقول مازال يراقبنا يا أمي .
عندما نظرت الأم حيث أشارت بإصبعها كان الطفل يقف خلف زجاج الباب الخارجي يراقبهن بنظراته التي إستقرت عليهن مباشرة .
بدا الأمر مربك بعض الشئ للمرأة فهيئة الطفل لا توحي بما يستحق القلق بينما ملاحقته لهن ونظراته المسلطة عليهن أمر مثير ويستحق التساؤل .
للحظات همت بالتوجه نحوه لتسأله عن سر ملاحقته لهن لولا أنها رأت عامل الكافتيريا يحاول صرف الطفل من أمام واجهة الكافتيريا بعد أن تيقن أنه لا يتبع أحد رواد المكان بينما ظل الطفل واقفًا بقوة وثبات دون أن يبدي أي تجاوب مع العامل أويتحرك من مكانه قيد أنمله .
لا تدري حقًا لمَ فعلت ذلك ولكنها وبعفوية أشارت للعامل أن يدعه يدخل .
تقدم الطفل نحوهما بخطوات مترددة دون أن يشيح عنها بعينيه ولو لبرهة من الوقت .
وها هو وبعد أن أصبح يقف على بعد خطوات منها وبمقربة من طالولة الطعام مازال كما هو لا يفعل شيئًا سوى التحديق بها بينما أنفاسه المتلاحقة تتردد بصدره الصغير ليعلو ويهبط بسرعة لا تتناسب مع وقوفه الهادئ .
المرأة بإبتسامة ودودة وقد ظنت أنه ربما يكون جائع هل أحضر لك بعض الطعام ؟
الطفل لا يرد فقط نفس النظرة الصامتة .
هل أحضر لك المثلجات ؟
الطفل لا يجيبها ولا يشيح عنها ببصره .
همت أن تسأله عن إسمه وعن والديه وهل هو تائه لولا ذلك النداء الداخلي بالسوق والذي ينادي على طفل مفقود إسمه مازن ويرجو من يجده أن يتوجه به لمكتب الأمن .
هنا أدركت أنه هو الطفل المفقود فتنفست الصعداء لمعرفة ذلك وهى تسأله بحب أنت مازن أليس كذلك ؟
هيا تعالى معي سآخذك لوالديك .
لم يبدي الطفل أي تجاوب معها ولم يتحرك من مكانه ولم تتغير نظراته نحوها .
هنا لم تجد أمامها سوى إرسال عامل الكافتريا لمكتب الامن وإخبارهم بوجوده ليطمئن والديه .
دقائق قليلة ويحضر شاب بنهاية عقده الثاني وقد بدا عليه الذعر وما أن رأي مازن يقف قبالتهن حتى ربت على رأسه بحنو وهو يحاول أخذه والإنصراف بعيدًا بعد أن شكر المرأة وأعتذر لها عن الإزعاج .
المرأة وهى تتنهد بخجل مخاطبة ذلك الشاب بتساؤل ما به هل هو أصم ؟ أردفت قائلة لم ينطق بحرف واحد ولا يفعل شئ سوى التحديق بي ؟
الشاب وهو يتنحى بها جانبًا وبعيدًا بينما نظرات الطفل تلاحقها .
أنا باسل وهذا مازن إبن أختي وقد تركنا بلدنا ونزحنا إلى هنا بعد أن إشتد القصف وكثرت الغارات على بلدتنا وتهدمت منازلنا .
المرأة وأين والديه ؟
ولماذا يرمقني بنظراته ؟
ولماذا لا يتحدث ؟
الشاب بآسى وحزن وبصوت متهدج وهو يقول بإحدى الغارات تهدم منزلهم على من بداخله ليموت والديه وتموت أخته الصغيرة بينما كان مازن هو الناجي الوحيد ومن وقتها وهو لا يتحدث مع أحد حتى أنه منذ أستشهدت أسرته لم يذرف دمعة واحدة وكأن الأمر أكبر من قدرته على التعامل معه أو إحتماله .
إستطرد يقول بعد عرضه على الطبيب افاد بانه تعرض لصدمة شديدة من تأثير القصف وفقدانه لأسرته بتلك الغارة .
تأثرت المرأة مما سمعته حتى سالت دموعها الصامتة من عينيها لتعجز عن كبح جموح مشاعرها وبحركة عفوية ولا إرادية توجهت نحو الطفل لتطوقه بذراعيها وتحتضنه بقوة وبصمت لعدة دقائق .
غابا سويًا بحضن طويل مما جعل أنظار الجميع تتوجه نحوهم .
شعرت بدموعه تبلل ملابسها فأدركت أنها ليست سوى دموعه الحبيسة والتي عجزت أن تخرج من مقلتيه منذ موت والديه وشقيقته .
أمسكت برأسه بين يديها بحنو بالغ وهى تجاهد لكبح إنفعالاتها لتخبره أنه بطل وأنه سيتجاوز ذلك ولكنه لم يمهلها اي وقت للحدبث فبينما كانت دموعه البكر على موت أسرته تنسل من عينيه وتنساب بغزارة إقترب من أذنها هامسًا بعبارته الأولى منذ فقدهما ليقول بعفوية وبراءة ( تشبهين أمي كثيرًا… )
أيمن موسى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق