اخر الاخبار


الثلاثاء، 2 يونيو 2020

دروب الصبر، محمد عبد النعيم

دروب الصبر..

قصة قصيرة..
محمد عبدالنعيم.
تستطيع اليوم أن تفض غشاء دموعها ، وتتركها تسح على مجرى خديها فتغسل الوجه الذابل، وتعيد إليه نضارة شباب أفنته في دروب الصبر ، حتى خرجت بهم من بين الآهات ، والوحدة ، واليتم إلى بر الحياة، أخيراً وصلت مركبها إلى مرساها ، فلكم عانى الجسم النحيل ، الغض ، والعيون البريئة في لجة الحياة ، وكم من رياح زمجرت حولها ، والمركب تسير ، وعواصف غضبت وكادت تطوح كل شئ منها وحولها والمركب تسير ، حياتها كانت بحر نار ومجدافها الصبر والتأني والتوكل على الله والرضا بالنصيب والمقدر والمقسوم ، اليوم تستطيع أن تمدد الجسم المنهك وتفرد ساقيها على طولهما، وتشد ذراعيها للوراء ، وتتثاءب ، وتملأ رئتيها وتفرغ كل التنهدات والآهات ، اليوم تلتئم الجروح ، وتنطفئ الآهات وتبرأ الجروح والألام وتنام مطمئنة (نوم العوافي ) ، بعد أن كانت لا تنام إلا نوم المتعب ، القلق ، الأرِق ، المهموم ، المشغول ، والموجوع، تتقلب على الجمرفي فراشها ، وتدوس على الأشواك في طريقها، وتصحو على نغصات الوجع والألم ، اليوم تبكي بأريحية بعد أن حبست دموعها خلف سدود صبرها، فالحمل عليها كان أثقل من أن تضيع جهدها في البكاء ، فلملمت اللحم المكوم حولها ، ووقفت به أول الطريق ، يدفعها الأمل ، وتظللها أشجار الصبر، كان ذلك اليوم عصيباً ، وقاسياً، لم تبرحها ذكراه أبداً ولا غاب مشهده عنها ، ظل يتراقص طيفه أمامها كضوء سقط على مرآة لامعة في يد ولد عابث ، خرج زوجها (أبوالمجد) من عندها ذلك اليوم بصحته ، وعافيته ، تحمله ساقاه ، خرج من أجل لقمة العيش، وكم من مسافر من أجل لقمة العيش، قالت له يومها ، ودموعها لا زالت بكراً على خديهاالغضين :
- لا تسافر وابقى معنا ورب هنا رب هناك .. يكفينا طلتك علينا ونفسك بيننا بالدنيا وما فيها .. مستورة والحمد لله .
فقال لها وهو عازم على السفر:
- العيال حملهم كبير والحياة هنا صعبة والعيشة ضيقة .
- فرجه قريب ورزقه واسع وربك لا ينسى أحد وكما قلت لك رزق هنا رزق هناك ..
- نجرب مثل غيرنا وغايتها سنة بالكتير او أثنتين وأرجع إن شاء الله .
ووصاها بنفسها وبالعيال ، وركب مركب الصبر في دروب الغربة ، وبقيت هي بالعيال ، تعد الأيام والليالي وتمني نفسها بعودته مجبور الخاطر ، وتلعب بها الوساوس والهواجس ويأخذها الفكر ، ويطوح بها في كل ركن وتأكدت وساوسها وهواجسها عندما عاد إليها ولكن ليس كما خرج ، مات وهو ينبش عن لقمة العيش بأظفاره في الصخور وكم من مسافر عاد من غربته ميتاً في سبيل لقمة العيش ، يعصرها الألم بشدة حين تذكرت يوم عودته في صندوق ، قامت من مكانها فتحت صندوق خشبي أسفل السرير أخرجت صورته من بين ملابسه المطوية بعناية والمعطرة ، إحتضنتها ، أشبعتها قبلاً ، تساقطت دموعها سخية ، ازاحتها بوجه كفها الأيسر وتمددت على فراشها ، وابتسمت له في الصورة ، ويأتيها طيفه من خلف الأيام ، يمد ذراعيه إليها وابتسامته تزين محياه الأبيض البشوش  وكأنه طبق من النور وقال لها :
- سلامتك يا حكمت .. سلامتك يا أم العيال .. ألف سلامة
تسمعه فتحاول أن تنهض من مكانها لتحضنه ، عجزت عن القيام فقالت وهي تئن :
- تعبت يا أبو العيال .. المشوار كان طويل والحمل كان كبير وثقيل عليّ ..
فسمعته يقول والابتسامة مازالت مشرقة كالشمس على محياه :
- ماشاء الله ولا قوة إلا بالله  ..عيني عليكِ باردة ..كنت في قدر المسئولية وأكثر .. رفعت رأسي لفوق وسط الناس .. وشجر صبرك طرح ودروب صبرك نورت .
ثم يقترب منها يغمرها طيفه ويأخذها من يدها ويسبح بها في فضاء رحب ، يطير  الجسد المنهك كالريشة في الهواء بين سحب من نور ، يدها بيده ، ثم يبعد كل شيء ويتلاشى وراءهما لترى من فوق جسدها ممداُ فوق فراشها يحتض صورة الأيام والشهور والسنين ، وتدور دوائر وتدور كأطباق من نور فوق جسدها ، وحملها الثقيل يتطاير من جسدها كأوراق الأشجار حين يهزها الخريف ، ووقف عيالها كلهم وأحفادها  بنين وبنات يبكون حول الجسد الراقد في سلام على فراشه ، كانوا جميعاً كالأشجار الحبلى بالأوراق والثمار وقت الربيع ، أهلة اكتملت استدارتها فصارت أقماراً منيرة في سماء الحياة ، وروداً خرجت من بين الأشواك تضحك للربيع ، فارقتهم أمهم (حكمت ) بابتسامة الرضا والسرور ،  وتركتهم ليشقوا بمراكب الصبر بحور الحياة كما تركهم لها أبوهم (أبو المجد ) من قبل وهم نباتات صغيرة غضة في بستان الحياة فصبرت وتحملت حتى كبروا وشقوا طريقهم في الحياة وتركتهم الليلة في سلام لتلحق بأبيهم بعد خمسين سنة من الفراق عاشتها في دروب الحياة صابرة ، متوكلة ، يمدها الله بمدده من عنده حتى نجحت وحققت ما صبرت وسعت من أجلها ومشت له في دروب الصبر ...
           تمت ....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق