مرت خمسة أعوام بعد تلك النكسة التي اطاحت بمدينتي واصبحتُ شريدا، وطريدا من أرضي فبعد أن زارها ذلك الوباء اللعين حاملا معه مناجل الموت التي حصدت أرواحنا وهدم فوق رؤوسنا أسوارها اضطررت الى تركها، هاربا من موت ما تزال مخالبه تاركة آثارها في قلبي باحثا عن مكان آخر أعيد فيه بناء أحلامي، ليطرق أبواب عقلي حديث صديقي حسام عن مدينة يعيش فيها وبالغ في وصف ترفها وجمالها فكانت كلماته ضوء بآخر طريقي المظلم فيرشدني الى ساحة حياتي التي لطالما تقت الى نيلها، سرت وسط ظلمات طريقي شهورا انقضت وأعواما جرت خلفها خيبات بحثي عنها باحثا عن ابرتي فأنفض بها رماد أحزاني ورغم المدن التي قابلني اهلها بكل حفاوة وترحاب الا أنني لفظتها فلا أريد حبة الكرز بل أريد الكعكة كاملة، وحينما يتملك مني اليأس في ايجادها تمد الي كلماته يد العون فتعيد الي شغفي بإيجادها حتى وصلتها حينما ميزت سورها الذي حدثني عنه ولكني وجدت الأسود وارى لبناته البيضاء فعبرته، تحطمت أحلام نسجتها في خيالي حينما ألقاني ما رأيت في بئر مظلم من هواجسي ، فلا أدري أين هو ربيع حياتي الذي سأقضيه وسط تلك القاذورات برائحتها النتنة، أين هي فراشاتها وبساتينها التي لطالما حدثني عنها، يبدو ان خريفها قد عانق خريفي، أين هي حياتهم الكريمة وطعامها الشهي وأنا أرى أهلها حولي يصارعون كلابها وقططها البائسة كحالهم على كسرة خبز وسط أكوامها، يبدو أن بؤسي قد سبقني الى هنا هو الآخر، أنظر في عيون القوم حولي فأجدها قد ملئت دهشة وشفقة فلا أدري هل هي على حالي أم حالهم.
رأيت سورا عن يميني وعنده يقف رجلان فذهبت وجلست أرضا بجوارهم اندب حظي وأقبض من رماد أرضها المتشققة كروحي لينساب بين يدي فأتذكر حسام وهو يخبرني باحدي رسائله بأن الذهب يجري بين أيديهم، نظرت الى الرجلين فوجدتهم مغمضي العينين يشهقون ثم يحبسون أنفاسهم طويلا، تتحرك عيونهم خلف جفونهم وكأنهم يحلمون، علمت السبب حينما طرق اشتممت رائحة ذكية صادرة من الجانب الآخر للسور، وجدت احدهم يحدث الآخر قائلا : يستأثرون بالنعم ولا يتركون لنا حتى فتاتها .
ليقول الآخر : لا تتذمر فتفقد كلتاهما .
انتبهت الى فتاة صغيرة تترنح في سيرها أمامي حتى وجدتها تسقط فهرعت اليها ويسبقني خوفي اليها حتى وصلتها وحملتها بين ذراعي وأنا أرى شفتاها المتيبستان، أهزها، أصرخ بها لعلها تفتح عيونها المقفلتان، أصرخ بالقوم حولي ليمد أحدهم يد المساعدة اليها دون جدوى فكل منهم مشغول بحاله لا يهمه الآخر، وجدت حسام يقف أمامي بملابسه الرثة التي تكاد تستر عورته، يخالط لون جسده الأبيض لون الرماد ، ألجمتني الدهشة والصدمة عن الكلام وحينما استعدت عقلي سألته : حسام، أهذا انت ؟؟؟!!!
أومأ برأسه وقال منكسرا : نعم .
ذهبت اليه وأمسكته من تلابيبه، صحت به وسط بركان غضبي قائلا :
أهذه هي المدينة التي لطالما أخبرتني عنها ، وأنها أرض الجمال والعدل ، أين العدل فيم يحدث ؟؟!!!
أشار ناحية السور وقال : لقد كانت كذلك ولكنهم تركونا وانتقلوا الى الجهة الأخرى من السور .
سمعت صوت الفتاة وهي تناديني فذهبت اليها فوجدتها تفتح عينيها وتقول كلمات أقرب الى الهمس: خذني الى السور .
حملتها وذهبت صوب السور وجلست بها أرضا فأخذت نفسا عميقا وعندما أخرجته غادرتها روحها، هززتها وأنا أناجيها ان تفيق فلقد تذكرت ابنتي وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة بين يدي، نظرت الى القوم حولي ونهضت أصرخ بهم وسط دموع قلبي : الى ماذا تنظرون؟ لقد ماتت، وسيموت غيرها، لماذا تقفون هكذا دون حراك، كيف ترضون ذلك الذل على أنفسكم .
أطبقت يدي وضربت السور بقوة ثم قلت لهم : ان كان هذا ما يمنعكم الحياة، فاهدموه لتعيشوا حياتكم المغتصبة .
لم أجد منهم من يحرك ساكنا فزفرت في غضب وحينها دوى صفارة بالمكان فوجدتهم يتركوني ويهرولون الى فتحة بالسور، يتقاتلون فيم بينهم على شيء خرج منها وحينما ذهبت اليهم وجدته فتات طعام، اقتربت من حسام الذي بدأ في التهام كسرة خبز يابسة مغطاة بألوان تتأرجح بين الأخضر والأسود، أمسكت به من كتفيه أهزه بشدة ، أسأله : ما هذا ؟ ماذا تأكل ؟ ألا تشم رائحته ؟
لم أجد منه إجابة بل زاد التهامه لها فضربتها من يده وأنا أصيح به : أتركها واجبني .
سقطت الكسرة أرضا فانكب عليها والتقطها ثم التهمها في شراهة وسط دمعة سقطت من عينيه ثم استدار الي وقال : انها لذيذه .
وضعت يدي فوق رأسي وأنا أرى الناس يتكالبون على قاذورات منوا عليهم بها، ذهبت صوب الفتحة وصارعتهم حتى وصلتها، تسلقتها وصعدتها عازما على الوصول الى الجهة الأخرى، مكان ضيق، الظلام والفئران سكانه وأصواتهم التي تدوي برأسي تدمع عيني والرائحة النتنة تزكم أنفي، انتهت معاناتي حينما رأيت ضوءا بآخرها، استعدت نشاطي وزدت من سرعة حبوي حتى وصلت نهايتها فخرجت منها، وقفت أنظر حولي فرأيت حولي بساتينها وفراشاتها تتنقل بين زهورها، ورائحتها الذكية تملأ المكان، لم يمر سوى ثواني حتى وجدت أشخاصا غلاظا ينطلقون صوبي تسبقهم كلابهم، ارتعدت خوفا فقفزت ثانية الى الماسورة معاودا طريقي لأسفل وانا أسمع سبابهم ولعناتهم تلاحقني .
وصلت الطرف الآخر فوجدت الناس ما زالوا يلتهمون طعامهم، وقفت أمامهم وصحت بهم غاضبا :
لماذا ترضون بهذا الذل ؟ كيف تخضعون لمن سلب منكم حياتكم ؟
انهم ليسو رسل موتكم ليدفنوكم بهذه المقابر التي تسمونها بيوتا وينعموا هم بحياتكم، انزعوا عن رؤوسكم شباك الذل والمهانة وقاوموا لحياتكم، ماذا سيفعلوا بكم أكثر مم أنتم فيه، تعيشون في سلال القمامة ويعيشون هم في قصور .
لم يجيبوني بل نكسوا رؤوسهم ثم تابعوا طعامهم، وجدت صوت يدوي بالمكان حولنا في صوت جهوري غاضب : أيها القمامة، هناك من حاول تدنيس بيوتنا ولذلك فانتم محرومون من الطعام الا وجبة واحدة باليوم، المرى القادمة ستحرمون من الطعام نهائيا .
نظرت اليهم، أنتظر ثورتهم، غيرتهم على كرامتهم ولكني كنت واهم فنظروا الي بغضب ثم تركوني ورحلوا .
جلست أرضا ألوم نفسي على ضياع شهورا عديدة في البحث عن مدينة أنهل فيها من السعادة ما يداوي ندوب خطها الحزن بقلبي .
السبت، 16 مايو 2020
نبرات المداد
/
نبرات المداد لايف،محمود الكومى،على متن حلم،قصة قصيرة
/
على متن الحلم - الكاتب محمود الكومى
على متن الحلم - الكاتب محمود الكومى
الكاتب: صفاء السكوت
نبرات المداد لايف،محمود الكومى،على متن حلم،قصة قصيرة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق