لحن الوفا
انقضت ساعات النهار، وذاب قرص الشمس في دفئ الأفق وخيم الظلام بصمته
وديجوره، فكسا الأزقة برداء داكن
طرزته أضواء خافتة، تسللت على استحياء من أعمدة الإنارة المنتشرة على جنبات
الطريق. هنالك دوماً بعضاً منها يتحدى الإهمال وعوامل الطبيعة، يحمل على عاتقة
مسؤولية اضاءة الطرقات باعثاً فيها القليل من الأُنس .. والحياة.
خفَّت حركة الشارع بالتدريج، وبدأ الليل بنشر نفوذه على الطرقات، فلا تكاد قدم
تطأ الأرض إلا وبدت الأرصفة منصتة في ترقب وفضول!
أمام إحدى البنوك القديمة، جلس عم صالح حارس الأمن على دكته الخشبية
المتهالكة
والتي لا يبطنها إلا مصليته القديمة ذات الوظائف المتعددة، وقد انتهى لتوه من إعداد
كوباً من الشاي الدافئ، يتحدى بلونه الداكن ظلمة السماء.
أخد يحرك مؤشر مذياعه الأحمر القديم وهو يرشف من كوبه رشفات سريعة
ومتلاحقه حتى يتسنى له الاستمتاع بما تبقى فيه من دفئ، فالطقس لص بارد يسرق
الحرارة حتى من جذوات الأشجار التي أشعلها بغرض التدفئة وتحضير الشاي.
ها هما شادية والعندليب يغردان سوياً ب "لحن الوفا" .. إنها ليلة سعيدة بكل ما
تحمله الكلمة من معان!!
نظر لذلك الاختراع العجيب بحب وامتنان، يا له من عبقري صغير!! كيف يعرف
جيدا ما الذي يحتاجه بتلك الدقة المدهشة؟!
أنا الربيع أنا الغرام أنا الهوى
أيام هواك في ليل قساك كنا سوا
كنا سوا و مال الهوى فرح و أغاني
ليل الهوى راح وانطوى ويَّا الأماني
طلع الصباح مليان جراح والشوق ضناني
أيام ودادك قلبي ناداني و طاوعت قلبي
و ف ليل بعادك لقيت زماني قاسي و غدر بي
غنيلي لحن الوفا لحن المحبة
وانعم بليل الصفا ويا الأحبة
بعدك شغلني ..قلبي سألني ..على حبيبي
و بدمع غالي ..ابكي الليالي ..وأقول نصيبي
الحب عندي أمل أعيش على نوره
وان كان يطول الأجل اتهنى بعبيره
طبع الزمان غدر وأمان و نهار وليل
والحب كان له ناس وناس صفوه جميل
اسقيني واشرب معايا ..
نسيني لوعة قسايا ..
حبيبي حقق منايا
غنيلي واشجيني ...واملالي واسقيني
واملالي واسقيني
لم تكن تلك هي المرة الوحيدة التي يفاجئه المذياع بذلك القدر الهائل من السعادة
والجمال، فصديقه الصغير هذا دائماً ما يؤنسه ببهجة كبيرة الحجم يستمر مفعولها
الساحر معه طيلة الليل وحتى تنتهي ورديته في ساعات الصباح الأولى.
عم صالح رغم أُميته ووظيفته البسيطة كانت لديه ذائقة راقية جداً تميز الطرب،
وتفرق جيداً بين القبح والجمال.
بقلم/ د. عبدالرحمن حسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق